وصف النار
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لقد خلق الله تعالى النار وجعلها مقراً لأعدائه المخالفين لأمره،
وملأها منغضبه وسخطه وأودعها أنواعاً من العذاب الذي لا يطاق،
وحذر عباده وبين لهم السبلالمنجية منها لئلا يكون لهم حجة بعد ذلك
وعلى الرغم من كل هذا التحذير من النار إلاأن البعض من الناس ممن قل علمهم وقصر نظرهم
على هذه الدنيا أبو إلا المخالفةوالعناد والتمرد على مولاهم ومعصيته جهلاً منهم بحق ربهم
عليهم وجهلاً منهم بحقيقةالنار التي توعدهم الله بها، فما هي هذه النار؟ وما صفتها؟
إنها كما قالالله تعالى عنها: نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ - التحريم:6 -
قيل: يا رسول الله أهي مثل حجارة الدنيا؟ فقال : (والذي نفسي بيده إنها حجارة كالجبال) .
وقال : (ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)
قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: (فإنها فُضلتعليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها) متفق عليه .
وقال : ( يؤتى بجهنم يوم القيامة ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألفملك يجرونها)رواه مسلم .
وروي عن كعب الأحبار أنه قال:
(والذي نفس كعب بيده لو كنت بالمشرق والنار بالمغرب
ثم كُشف عنها لخرجدماغك من منخريك من شدة حرها! فيا قوم هل لكم بهذا قرار؟
أم لكم على هذا صبر؟ ياقوم إن طاعة الله أهون عليكم والله من هذا العذاب فأطيعوه) أ. ه.
طعام أهلها الزقوم وشرابهم الحميم. قال :
(لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه)رواه الترمذي
وقال حسن صحيح.
وأهل النار في عذاب دائم، لاراحة ولا نوم، ولا قرار لهم، بل من عذاب إلى عذاب قال :
(إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي
المرجل مايرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً) رواه مسلم .
وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون!
قد اسودت وجوههم، وأُعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم
وكسرت عظامهم يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ - المائدة:37-]
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَالِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ[النساء:56 .
يقول الحسن: (تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة)لباس أهلها من نار،]
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ[إبراهيم:50-
وشرابهم وطعامهم من نار ]وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أ مْعَاءهُمْ[محمد : 15
قال ابن الجوزي في وصف النار:
( هي دار خص أهلها بالبعاد، وحرموا لذة المنى والاسعاد، بُدلت وضاءة وجوههم بالسواد،
وضربوا بمقامع أقوى من الأطواد، عليها ملائكة غلاظ شداد،
لو رأيتهم فيالحميم يسرحون وعلى الزمهرير يطرحون، فحزنُهم دائم فلا يفرحون،
مقامهم دائم فلايبرحون أبد الآباد، عليها ملائكة غلاظ شداد، توبيخهم أعظم من العذاب،
تأسفهم أقوىمن المصاب، يبكون على تضييع أوقات الشباب وكلما جاد البكاء زاد،
عليها ملائكة غلاظ شداد، يا حسرتهم لغضب الخالق، يا محنتهم لعظم البوائق،
يا فضيحتهم بين الخلائق، أينكسبهم للحطام؟ أين سعيهم في اللآثام؟
أين تتبعهم لزلات الأنام؟
كأنه أضغاث أحلام،ثم أحرقت تلك الأجساد، وكلما أحرقت تعاد، عليها ملائكة غلاظ شداد ) أ. ه.
فتأمل أخي الكريم حال أولئك التعساء وهم يتقلبون في أنواع العذاب ويعانون في جهنم ما لا تطيقه الجبال،
وما يفتت ذكره الأكباد ولا تسأل عما يعانونه من ثقلالسلاسل
والأغلاإِذِالأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ[غافر:71]،
وقال تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ[الحاقة:32].
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
( تُسلسل في دبره حتى تخرج من منخريه
حتى لايقدر أن يقوم على رجليه ثم ينظمون فيها كما يُنظم الجراد في العود حين يُشوى).
أرأيت أخي حال أهل النار وما هم فيه من الشقاء، فتصور نفسك لوكنت منهم -
نسأل الله أن لا تكون منهم - تصور نفسك عندما يؤمر بك إلى جهنم
عندماتنظر إلى الصراط ودقته وهوله وعظيم خطره وأنت تنظر إلى الزالين والزالات من بينيديك
ومن خلفك وقد تنكست هاماتهم وارتفعت على الصراط أرجلهم وثارت إليهم الناربطلبتها،
وهم بالويل ينادون وبينما أنت تنظر اليهم مرعوباً خائفاً أن تتبعهم لم تشعر إلا وقد زلت قدمك
عن الصراط فطار عقلك ثم زلت الأخرى فتنكست هامتك، فلم تشعرإلا والكلوب قد دخل في جلدك ولحمك،
فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب ربها، فهي تجذبك وأنت تنادي ويلي ويلي
حتى إذا صرت في جوفها التحمت عليك بحريقهافتورمت في أول ما ألقيت فيها،
ثم لم تلبث أن تقطر بدنك وتساقط لحمك، وتكسرت عظامك،
وأنت تنادي ولا تُرحم وتتمنى أن تعود لتتوب فلا يجاب نداؤك.
فتصور نفسك وقدطال فيها مكثك،
فبلغت غاية الكرب، واشتد بك العطش فذكرت الشراب في الدنيا ففزعت إلى الحميم فتناولت الإناء
من يد الخازن الم وكل بعذابك فلما أخذته نشت كفك من تحته،وتفسخت لحرارته، ثم قربته
إلى فيك فشوى وجهك، ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك فقطع أمعاءك،
فناديت بالويل والثبور وذكرت شراب الدنيا وبرده ولذته وتحسرت عليه، ثم آلمك الحريق
فبادرت إلى حياض الحميم لتبرد فيها كما تعودت في الدنيا الاغتسا لوالانغماس في الماء
إذا اشتد عليك الحر، فلما انغمست في الحميم تسلخ لحمك، من رأسك إلى قدميك،
فبادرت إلى النار رجاء أن تكون هي أهون عليك ثم اشتد عليك حريق النارفرجعت إلى الحميم
فأنت هكذا تطوف بينها وبين حميم آن وذلك مصداقاً لقول مولاك جل وعلا:
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ[الرحمن:44]. فتطلب الراحة بين الحميم وبين النار، فلا راحة ولا سكون أبداً.
فلما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك المجهود ذكرت الجنان فهاجت غصة
منفؤادك إلى حلقك أسفاً على جوار الله عز وجل وحزناً على نعيم الجنة
الذي أضعته بنفسكبسبب الذنوب والمعاصي،
ففزعت إلى الله بالنداء بأن يردك إلى الدنيا لتعمل صالحاًفمكث عنك دهراً طويلاً لا يجيبك هواناً بك،
ثم ناداك بعد ذلك بالخيبة منه أناخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108]
ثم أراد أنيزيدك إياساً وحسرة فأطبق أبواب النار عليك
وعلى أعدائه فيها فيا إياسك ويا إياسسكان جهنم حين سمعوا وقع أبوابها تطبق عليهم، فعلموا عند ذلك
أن الله عز وجل إنماأطبقها لئلا يخرج منها أحد أبداً، فتقطعت قلوبهم إياساً وانقطع الرجاء منهم أن لافرج أبداً،
ولا مخرج منها، ولا محيص من عذاب الله عز وجل أبداً، خلودٌ فلا موت. وعذابٌ لا زوال له عن أبدانهم،
وأحزان لا تنقضي، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تحل،وأغلال لا تفك أبداً وعطش لا يروون بعده أبداً، لا يُرحم بكاؤهم،
ولا يُجاب دعاؤهم،ولا تقبل توبتهم فهم في عذاب دائم وهوان لا ينقطع،
ثم يبعث الله بعد ذلك الملائكةبأطباق من نار ومسامير من نار، وعمد من نار،
فتطبق عليهم بتلك الأطباق وتشد بتلكالمسامير، وتمد بتلك العمد،
فلا يبقى فيها خلل يدخل فيها روح ولا يخرج منه غم،وينساهم الرحمن بعد ذلك نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]
فذلك قوله تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (
فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ[الهمزة:9،8]
ينادون الله ويدعونه ليخفف عنهم هذا العذابفيجيبهم بعد مدة اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].
قال الحسن:
( هذا هو آخر كلام يتكلم به أهل النار وما بعدذلك إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب... )،
فما أشقى والله هذه الحياةوما أشقى أصحابها -
نسأل الله أن لا نكون منهم - وما أعظمها والله من خسارة لا تجبرأبداً،
ويا حسرة والله على عقول تسمع بكل هذا العذاب وهذا الشقاء وتؤمن به ثم لاتبالي به ولا تهرب عنه
بل تسعى اليه برضاها واختيارها. فلا حول ولا قوة الا بالله.
فيا أخي الحبيب:
يا من تعصي الله تصور نفسك لو كنت من أهل النار؟
هل سترضىبشيء من هذا العذاب؟ لا أعتقد ذلك، إذاً فتب إلى الله
وارجع عما يكرهه وتقرب إليهبالأعمال الصالحة عسى أن يرضى عنك،
وابك من خشيته عسى أن يرحمك ويقيل عثراتك، فإنالخطر عظيم والبدن ضعيف، والموت منك قريب،
والله جل جلاله مطلع عليك ويراك فاستحمنه وأجله ولا تستخف بنظره إليك،
ولا تستهين بمعصيته ولا تنظر إلى صغر المعصية ولكنانظر إلى عظمة من تعصيه وهو الله جل جلاله
وتقدست أسماؤه، واملأ قلبك من خشيته قبلأن يأخذك بغتة،
ولا تتعرض له وتبارزه بالمعاصي فإنك لا طاقة لك بغضبه ولا قوة لكبعذابه،
ولا صبر لك على عقابه، فتدارك نفسك قبل لقائه لعله أن يرحمك ويتجاوز عنك،فكأنك بالموت
قد نزل بك وحينها لا ينفعك ندم ولا استدراك ما مضى.
وفقني الله وإياك لما يحب ويرضى ونجانا بعفوه وكرمه من أليم عقابه وعظيم سخطه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين